الخميس، 19 مايو 2016

إرث لوكوربوزييه الثّقيل



أرّقت أزمة السّكن الحكومات المتعاقبة في الجزائر، وكانت وإلى اليوم، مصدر السّخط الشّعبي الأكبر، وتتسبب غالباً في احتجاجات تفيق عليها السّلطات إثر كلّ عملية توزيع لسكنات جديدة.
وشهدت الجزائر تواتر برامج إسكان ضخمة، أتاحها أساساً صعود سعر البترول، مصدر الدّخل القومي الوحيد تقريباً في البلد. وبالبحث عن «نمط» و«استراتيجية» هذه البرامج، فإننا سنفاجأ بالتقائها في جزئية واحدة، هي تجميع السّكان في أطراف المدن، داخل عمارات سكنية.
تاريخياً، كان المعماري الفرنكو – سويسري لوكوربوزييه (1887-1965) مبتدع فكرة «الوحدة السكنية»، والتي تجسّدت، لأول مرة، في مدينة مرسيليا، بُعيد الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه التّقنية المعمارية اجتهاداً ظرفيّاً بُغية حلّ مشكل السّكن الذي نجم عن الدمار الذي خلّفته الحرب.
ويعدّ لوكوربوزييه (أو شارل إدوارد جانيريه كري) بشهادة الكثيرين، واحداً من أكثر المعمارين تأثيراً في القرن العشرين، ومن أكثرهم فرادة، وامتدادا لصنف الأنتلجنسيا الموسوعية التي أثثت القرن السّابق، فكان الرّجل، في الوقت عينيه، مثقفاً شمل انتاجه نواحي فنية أخرى، كالأدب، الرّسم والنّحت وتميّز بغزارة أعماله المختلفة وانخراطه في قضايا عصره.
تمّ استغلال تقنية «الوحدة السكنية» مع شيوع اسمه كسفير لتيار «الحداثة العمرانية»، في بلدان عديدة بعدها، وتلقفتها الدّولة الجزائرية، مُهملة سياقها التّاريخي والعمراني، وتبنّتها كحلّ سحريّ سرعان ما كَشَفَ عن زَيفِه وخطورته.
إن اجتثاث نموذج لوكوربوزييه من الواقع الذي فرضه، وإغفال خصوصيات العمران الجزائري القديم الذي تأثّر به لوكوربوزييه نفسه، بل وجعله يعزف عن نموذج «الأسلوب العالمي» في البناء، أدّى في نهاية المطاف إلى تعقيد إضافي للأزمة.

في بلد شاسع مثل الجزائر، يكشفهذا التّجميع والرّصف لاعقلانية التّخطيط والتسيير، بل ويتناسى خصائص المجتمع والطبيعة الزراعية التي عُرِفت بها الجزائر في الأصل. وعِوض أن تشجّع الدّولة ثقافة التأجير وتقنّنها، أخذت على عاتقها تصميم وتشيّيد وتوزيع السّكنات، التي تُعتبر بصيغتها الحالية كمِنَحٍ سكنية أكثر منها ترقية حَضَريّة تحفظ للمدن والقرى استقرارها العمراني.
صارت هذه الآلية الملجأ الوحيد للطبقات المتوسطة والفقيرة التي تحلم بسكن لائق. وتطرح دينامية هذا الطلب وتزايده بحكم الضرورة الديموغرافية معضلة لا تشي بنهاية قريبة. ويغدو الحديث عن «جدوى اقتصادية»، من وراء برامج الإسكان هذه آخر هموم السّلطات المسؤولة، قياساً بالمشاكل التي تعرفها عمليات التوزيع والتي تنتهي غالباً باحتجاجات عارمة.
يُضاف إلى ذلك كله الأثر السوسيولوجي للوحدات السّكنية؛ والذي أشارت له دراسات عديدة وحذّر خبراء كثيرون من نتائجه الوخيمة على النسيج المجتمعي، وكان كتاب «الجزائر، محتشد أم مدينة» لفاروق بن عطية، الصادر عام 1980، قد تنبأ مبكراً بظهور مشاكل أمنية ناتجة عن هذه السّياسة، وهو ما أثبتته سنوات التسعينات.
تشهد هذه البنايات الجديدة أزمات أمنيّة مقلقة، خصوصا وأن أغلبها لا يتوافر على مرافق حَضَريّة؛ كون هذه التّجمعات توفّر، في ظلّ ظروف البطالة والحرمان، مناخاً حيوياً لظهور بؤر تشجع الشباب على الانخراط في الإجرام.
وبعد خمسين سنة على الاستقلال، ووفاة لوكوربوزييه، تتواصل هذه المشاريع بالوتيرة نفسها رغم ارتجاليتها وتسرّعها، واعتمادها على «الوحدة السّكنية» كحجر أساس في كل خطوة عمرانية، مصرّة فيما يبدو على أن تكون ملكيّة أكثر من الملك، متجاهلة تلك اللحظة الحرجة، عند نفاذ الرّيع البترولي.
موقع نفحة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك لا تقرأ و ترحل

Copyleft © 2014 Ramis.Architecture | Designed With By Blogger Templates - تعريب وتطوير - قوالب بلوجر صواريخ
الى الاعلى